مع اتخاذ الإدارة الأمريكية قراراً حاسماً بعدم تمديد الإعفاءات المؤقتة التي طبقتها على العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام ميليشيا أسد، ينتقل الحديث عن تعثر “المبادرة العربية” للحل في سوريا من مستوى التكهن والتوقع المسبق، إلى مستوى التأكد من ذلك بالنسبة للكثيرين.
فقد أبلغت وزارة الخارجية الأميركية، لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، يوم الجمعة، رفضها تمديد “الإعفاءات الإنسانية” على العقوبات المفروضة ضد حكومة النظام، بعد رسالة بعث بها مشرعون أميركيون في اللجنة إلى الإدارة الأميركية لإبلاغها برفضهم القاطع للتمديد.
هذا الرفض الذي يعبر عن توحد في الموقف بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي حيال هذا الموضوع، جاء بعد أسابيع من التكهنات والتسريبات التي تواترت لتكشف عن سخط عربي تجاه ميليشيا نظام أسد، بسبب طريقة تعاطيها مع المبادرة التي أقرتها لجنة المتابعة العربية بخصوص سوريا.
وكانت اللجنة المؤلفة من وزراء خمس دول هي السعودية والأردن والعراق ومصر بالإضافة إلى وزير خارجية النظام وممثل عن الجامعة العربية، أقرت بشكل رسمي خلال اجتماعها في العاصمة الأردنية عمان، في الأول من حزيران/يونيو ٢٠٢٣، المبادرة القائمة على مبدأ (الخطوة مقابل خطوة) من أجل حل شامل للقضية السورية.
لكن ورغم التفاؤل الذي سيطر على الإعلام العربي الداعم لهذه المبادرة طيلة الأشهر الماضية، وما تخللها من خطوات عربية للانفتاح السياسي والاقتصادي تجاه نظام أسد، هذا الانفتاح الذي توج بإعادة مقعد الجامعة العربية إليه، وحضور رأسه بشار الأسد القمة العربية التي جرت في جدة السعودية في أيار/مايو الماضي، إلا أن كل ذلك لم يكن كافياً لجعل النظام يبادر بأي خطوة جدية من جانبه لإنجاح المبادرة.
خلفية المبادرة
وتستند المبادرة العربية على الفكرة الأردنية التي طرحها الملك عبد الله الثاني، في منتصف العام الماضي ٢٠٢٢، ولاقت رواجاً عربياً قبل أن يتم إقناع الإدارة الأمريكية بدعم المحاولة، مقابل التعهد بأن تكون تحت سقف القرارات الدولية، وتحديداً قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٥٤.
انطلقت هذه المبادرة بدافع رئيسي هو الجمود الذي يسيطر على الملف السوري، وعدم تحمل دول الجوار، وتحديداً الأردن، كما تقول حكوماتها، المزيد من ضغط الوقت، بينما ليس لدى الولايات المتحدة أي إستراتيجية واضحة لحسم الأمر في سوريا.
وتحت هاجس تفاقم تهريب المخدرات في سوريا، وتزايد الهجرة منها، ما يهدد بتغيير ديموغرافي حقيقي، إلى جانب الخشية من انهيار غير منظم للنظام فيها، تمكنت عمان من جمع تأييد عربي وموافقة غربية لخطتها، ليأتي زلزال شباط/فبراير الدامي ويمنح هذه المبادرة فرصة استثنائية، حيث أقرت الولايات المتحدة والدول الغربية إعفاءات خاصة على العقوبات المفروضة بحق نظام ميليشيا أسد، ما سمح بتدفق الأموال إلى حكومته تحت عنوان توفير المساعدات الإنسانية للمتضررين من الزلزال والفقر في سوريا.
لكن عبد الوهاب عاصي، الباحث في “مركز جسور للدراسات” يعتقد أن أحد أسباب السلبية التي تعاطى بها هذا النظام مع المبادرة هو خيبة أمله من الكمية الهزيلة من المساعدات المالية التي حصل عليها من العرب حتى الآن.
ويقول في تصريح لـ”أورينت نت”: النظام منذ البداية لم يكن مهتماً بإنجاح هذه المبادرة ولا غيرها بطبيعة الحال، لكنه كان يعول على الحصول على مبالغ ضخمة من جانب الدول العربية الغنية، مقابل تقديم بعض الحوافز لها في ملف تهريب المخدرات.
ويضيف: نظام الأسد لم يكن يهتم في الواقع بالتطبيع السياسي بقدر اهتمامه بالفوائد الاقتصاد التي ستترتب عليه، وهو اعتبر تطبيع الدول العربية بوابة لتدفق أموال المساعدات، لكن ما حصل أن هذه المساعدات كانت محدودة جداً، وخاصة من جانب المملكة العربية السعودية، ما شكل خيبة أمل كبيرة للنظام، الذي عاد إعلامه لمهاجمة الدول العربية واتهامها بإفشال المبادرة.
بين الرضا والسخط
أول مؤشرات التوتر بين نظام ميليشيا أسد والدول العربية الراعية للمبادرة ظهرت خلال زيارة وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي الأخيرة إلى دمشق في الثالث من تموز/يوليو المنصرم.
وقتها أظهر رأس النظام ووزير خارجيته لهجة مستفزة حيال قضية عودة اللاجئين السوريين، حيث بدا واضحاً مدى استمرار التباعد في المواقف بين الجانبين بهذا الخصوص، على الرغم من حالة الرضا المعقولة التي يظهرها العرب فيما يتعلق بتعاون دمشق معهم في ملف تهريب المخدرات، كما تقول مصادر أورينت.
ورغم الابتزاز الذي استخدمه نظام ميليشيا أسد بهذا الملف، وعدم وضعه كبار المصنعين والمهربين على جدول الملاحقة في هذه المرحلة، إلا أن مصادر عربية كشفت أن الأردن ودول الخليج حصلت على إحداثيات ومعلومات استخباراتية من قبل هذا النظام، ساعدت بالكشف عن عدة شحنات واعتقال بعض المهربين على أمل أن يتطور هذا التعاون لاحقاً كشرط أساسي لزيادة الأموال التي ستقدم له تحت مظلة مشاريع التعافي المبكر المدعومة من الأمم المتحدة.
لكن المصادر تكشف لأورينت أن النظام كان يعول على الحصول بشكل مباشر ودون المرور بقنوات أخرى على كميات كبيرة من الأموال، غير تلك المخصصة لمشاريع المنظمة الدولية، لكن ذلك لم يكن متاحاً بسبب طبيعة العقوبات الغربية المفروضة عليه، ولا تسمح بها الاعفاءات الممنوحة، الأمر الذي أزعجه بقوة.
بل إن مصادر أورينت تقول إنه “ومقابل هذا التعاون الأولي والمحدود من قبله فيما يخص مكافحة تهريب المخدرات، فإن نظام الكبتاغون طالب دول المبادرة العربية بالإيفاء بـ(تعداتها) بإقناع الولايات المتحدة والدول الغربية بإلغاء العقوبات المفروضة عليه، أو بتخفيفها على الأقل، متجاهلاً أن حتى الإعفاءات التي منحت له لم تكن لتحصل لولا كارثة الزلزال، حيث بذلت الدول العربية جهوداً مضنية مع الإدارة الأمريكية من أجل إيجاد تخريج منطقي وقانوني تبرر فيه واشنطن هذه الإعفاءات قبل الزلزال لكنها فشلت، بسبب تعنت النظام من جهة، وتماهيه الكامل مع الموقف الروسي والإيراني من جهة أخرى، لكن تم التوافق على منحه هذه الفرصة بمثابة طوق النجاة الأخير، لكن من الواضح أنه لم يستفد منها ولا يبدو أنه بوارد التغير”.
تداخل وتباين
ما أفصحت عنه هذه المصادر يدمج بين الوقائع المؤكدة بطبيعة الحال، لجهة التعاون الملحوظ من النظام بملف المخدرات من جهة، ورفضه تهيئة البيئة الآمنة لتشجيع عودة اللاجئين من دول الجوار من جهة اخرى، وبين الرسائل الإعلامية والسياسية المتبادلة، خاصة في ضوء عودة السجال الإعلامي بين الجانبين مؤخراً.
وعليه لا يمكن القول إن ما سبق يعتبر مؤشراً حاسماً على انهيار المبادرة العربية أو فشلها بشكل كامل ونهائي، بل بمثابة تعثر قوي ومتوقع على الأقل.
أمر يتفق معه عبد الوهاب عاصي، الذي لديه من جانبه معطيات أخرى إلى جانب ما سبق، وفي مقدمتها عدم وجود موقف عربي موحد من جهة، وتباين المطالب والشروط من دولة لأخرى، وهو ما حاول النظام اللعب عليه والاستفادة منه.
ويقول: التعثر الذي يواجهه مسار التطبيع العربي يعود لعدة أسباب، أولها غياب مبادرة موحدة على مستوى الجامعة العربية والذي دفع كل من الأردن والسعودية والإمارات للاستمرار بجهودهم التي قد تكون منسّقة بالحد الأدنى في معالجة شواغلهم الأمنية والاقتصادية والسياسية عبر التواصل مع النظام السوري وحلفائه.
ويتابع الباحث عاصي: الأردن مثلاً يحاول تطبيق وثيقة اللاورقة أو المبادرة الأردنية لكنه لم يحقق أي تقدم، وهناك إغلاق لمعبر نصيب وإيقاف لحركة الصادرات والواردات بينه وسوريا، في مؤشر كبير على تعثّر التطبيع الاقتصادي وعدم تحقيق أي تقدم على المستوى الأمني سواء في مكافحة المخدرات أو إعادة اللاجئين.
أما السبب الثاني حسب تقديره لتعثر المبادرة العربية، فهو عدم تحقيق اختراق في التطبيع السعودي الإيراني الذي سينعكس سلباً على مختلف القضايا الإقليمية بما فيها سوريا، فالتطبيع الدبلوماسي ما زال عند الحد الأدنى، كما يقول.
إستراتيجية اللعب على الهوامش
بالعودة لنقطة بداية هذا التقرير، فإن السؤال الذي يطرح نفسه من جديد هو: إلى أي حد يمكن القول إن رفض الولايات المتحدة تمديد الإعفاءات الأمريكية الممنوحة للنظام بمثابة إعلان أمريكي عن فشل المبادرة العربية؟
وهل يمكن وضع تأخر المملكة العربية السعودية في فتح سفارتها بدمشق وتبادل البعثات الديبلوماسية مع نظام ميليشيا أسد بمثابة تأكيد على هذا الفشل؟
سؤال يجيب عنه عبد الوهاب عاصي بالقول: لا زال من المبكر القول بالفشل النهائي للمبادرة أو المحاولات العربية مع النظام السوري، فرغم رفض الإدارة الأمريكية تمديد الرخص الاستثنائية التي طبقت على نظام العقوبات، إلا أن الرخص الأوربية ما زالت قائمة وتم تجديدها، بمعنى نحن أمام سياسة (اللعب في الهوامش) وهي سياسة يطبقها الجميع على ما يبدو من أجل تحقيق ما أمكن من المكاسب.
أما فيما يتعلق بمسألة فتح السفارات وتأخر تبادل البعثات بين دمشق والرياض تحديداً، يختم عاصي، فإن هذا الأمر محكوم، إلى جانب الخطوات التي يفترض أن على النظام القيام بها ضمن إستراتيجية (الخطوة مقابل خطوة)، بمسار التطبيع والمصالحة السعودية-الإيرانية الشامل في المنطقة، حيث يعتبر الملف السوري جزءاً من هذا المسار.