مع استمرار مصرف سوريا المركزي في تخفيض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، مدفوعاً بالانهيار الكبير لليرة في السوق السوداء، طفت على السطح مؤخراً تقديرات حول توجه حكومة ميليشيا أسد لتحرير أسعار الصرف، في ظل تفاقم الدين العام وشحّ الاحتياطي النقدي الأجنبي.
وخفّض المصرف المركزي، وللمرة السابعة خلال أقل من أسبوعين، قيمة الليرة من 9 آلاف و500 إلى 9 و900 ليرة لكل دولار أمريكي، وفق ما أظهرته نشرة الحوالات والصرافة التي صدرت يوم الثلاثاء الماضي، ما يعني خسارة الليرة نحو 4 في المئة من قيمتها.
تعويم على التجربة المصرية
ويرجّح العديد من الاقتصاديين السوريين، قيام نظام أسد باستنساخ التجربة الاقتصادية المصرية التي استطاعت من خلالها الحدّ من تدهور قيمة الجنيه المصري، وتحصيل قروض من البنك الدولي الذي اشترط وقتها مرونة تسعير العملة وجعل الاقتصاد خاضعاً لسياسة العرض والطلب التي تحدد قيمة السلعة.
ويستدلّ أصحاب هذه النظرية بالإجراءات وتدابير حكومة أسد الاقتصادية الأخيرة، التي بدأها بتحرير الأسعار وتقليل الشريحة التي تتلقى المواد المُقنّنة مع عمليات تهرّب حكومته من توزيعها، لتغطية عجز الموازنة الذي قدّره رئيس وزراء ميليشيا أسد “حسين عرنوس” بنحو 25 ألف مليار ليرة سورية.
وعادةً ما يرتبط مشروع تعويم العملة، كلياً أو جزئياً، بإلغاء أو تقنين الدعم الحكومي عن السلع، والعمل على طرح مؤسسات الدولة الربحية للاستثمار الخاص، وهو ما تفعله حكومة أسد، وبالتالي ضمان تحقيق عائدات بالقيمة الحقيقية لأسعار النقد الأجنبي.
لا تعويم
لكن “يونس الكريم” وهو مدير منصة اقتصادي، يرى أن ما تعاني منه الليرة السورية لا يُعتبر تعويماً إلا مجازاً، وإنما بالحقيقة هو انهيار كبير في سعر الصرف وعدم قدرة البنك المركزي على احتواء التضخم الذي يعاني منه اقتصاده.
مشيراً إلى أن ما يجري الحديث عنه كتحرير للأسعار هو “نوع من أنواع احتكار الاقتصاد من قبل مجموعة ضيقة من أمراء الحرب المتنفذين على حساب الاقتصاد الوطني، وعدم فتح باب الاستيراد لجميع التجار بما يضمن توفر السلع وعدالة سعرها، وهو ما يناقض مفهوم التحرير الذي يتيح للسوق تحديد الأسعار”.
ويقول: إن التوجه للتعويم يحتّم توفر الشروط والأدوات، وأهداف تتمثل بجعل الاقتصاد متاحاً للجميع وحصر صلاحيات تدخل المصرف المركزي بالسياسات النقدية وأدوات أخرى غير متوفرة حاليا بالاقتصاد السوري.
أما بالنسبة إلى السياسات والقرارات الصادرة عن نظام أسد، فهي تؤكد عدم وجود نية للتعويم، بحسب الكريم، الذي أضاف: هناك قيود صارمة على حركة نقل الأموال وحتى حيازتها وامتلاكها التي قد تؤدي إلى الاعتقال، فضلاً عن قيود الاستيراد ومخاطر الحصول على النقد الأجنبي من السوق السوداء بالنسبة إلى التجار.
غايات أسد من انهيار الليرة
ويعتقد الكريم في حديثه لأورينت، أن نظام أسد يحاول تغطية عجز احتياطياته من النقد الأجنبي، وبالتالي تقليل هامش الفراغ الكبير بين مؤسسات الدولة وسعر السوق، لتحقيق ثلاث غايات تساهم في الحفاظ على وجود المؤسسات.
أولاً، الحفاظ على انخفاض تكاليف الخدمات التي تقدمها مؤسسات الدولة، لمنع انهيارها جراء عجزها عن تغطية نفقات هذه الخدمات.
أما النقطة الثانية فهي منع الفوضى بين سعر الخدمات التي تقدمها مؤسسات الدولة المعتمدة على سعر الصرف الرسمي، وبين سعر الخدمات والسلع المقدّمة من القطاع الخاص الذي قد يقود إلى صِدام بين المواطنين والدولة للمطالبة بسيطرة على أسعار التجار.
أما النقطة الثالثة، فتتمثل بمحاولات المركزي السوري إيجاد احتياطي أجنبي قادر على الاستمرار بتمويل المستوردين الذي يُقدم لهم وفق لوائح محددة، وتجنب الانهيار الكلي للاقتصاد وتحول التضخم الحاد إلى تضخم جامح.
مشيراً إلى أن نشرة أسعار صرف الحوالات الخارجية، تمثل ركيزة لمحاربة التضخم وحتى أداة لمنع التحكم الكلي للسوق السوداء بالأسعار، من خلال تقليل الفجوة بين السعرين، وفق ما يُعرف بالسياسات الموجهة للبنك المركزي.
التعويم المُدار بعد سبات
بدوره يرى الدكتور في العلوم المصرفية، فراس شعبو، أن نظام أسد ورغم عدم إعلانه تعويم الليرة، إلا أن إجراءاته النقدية الجديدة تشير إلى إتباعه سياسة التعويم المدار، من خلال السماح بمرونة أكبر في سعر الليرة وترك تحديد قيمتها الفعلية للسوق وعملية العرض والطلب.
ويوضح أن هذه السياسة تقوم عادة على تدخل المصرف المركزي بجزء من تحديد قيمة العملة مع توسيع هامش الحرية للسوق بالتحكم بجزء معين، إلا أن غياب سلطة البنك وأدواته على الأرض مع تحكم فئات محددة من المتنفذين بالاقتصاد يعمّق من سوء الوضع.
ويقول: البنك المركزي وبعد سبات لأكثر من ثماني سنوات، عاد بآلية جديدة لمواكبة أسعار السوق، دون التطرق إلى المشكلة الحقيقية المتمثلة بتعدد أسعار الصرف، إذ إن التغيير محصور بتسعيرة الحوالات الخارجية فقط، بينما بقية أسعار الصرف الرسمي للدولة لا تزال عند حدود 6500 ليرة لكل دولار.
هذا التخبط وتغير أسعار الصرف بشكل ساعي، فاقم من سوء الوضع الاقتصادي للسوريين، وأدى إلى المزيد من التضخم والخسائر للتجار والمورّدين والصناعيين، بحسب شعبو، الذي أضاف أن “آثاره انعكست على حالة الركود الصناعي والتجاري وتخوف الجميع من العمل وتحريك آلاتهم وأصولهم خشية الخسارة الحتمية”.
ويذهب كثير من الاقتصاديين السوريين ومنهم فراس شعبو، مع فكرة تحرير الاقتصاد السوري ورفع نظام أسد يده عنه والسماح بانسيابية حركة البضائع والنقد، وخاصة أن التبعات التي قد تنتج عن هذه الخطوة من انفجار التضخم وتحكم فئات محددة بالاقتصاد وحركة الأسواق الداخلية موجودة فعلاً.