تعلو ألسنة اللهب السياسي حقل الدرة للغاز قبل أن تعلوه الانبعاثات الناجمة عن الاستثمار المتعثر لهذا الحقل، إذ اعترضت كل من السعودية والكويت على الإجراءات الإيرانية المزمع تنفيذها بخصوص حقل الدرة المختلف عليه بين الدول الثلاث، إن صح التعبير، حيث تعتبره الرياض والكويت ضمن المنطقة
المحايدة المقسومة المتفق عليها بين البلدين، نافيتان أي حق لإيران في هذا الحقل، في المقابل، تحاجج إيران، وفق منظورها، بوقوع الأجزاء الشمالية من حقل الدرة في مياهها الإقليمية، مسخّنة الأجواء بتصريحات استفزازية، مهددةً بالبدء في عمليات الحفر والتنقيب في حقل الدرة نتيجة ادعائها بوقوع أجزاء منه في مياهها الإقليمية، ورافضةً في الوقت ذاته دعوة السعودية والكويت للتفاوض على ترسيم الحدود البحرية المشتركة بينهما، ما يجعل الخلاف حول الحقل الغازي أول اختبار حقيقي للمصالحة السعودية الإيرانية، طارحاً التساؤل حول عمق هذه المصالحة، وإمكانية إدارة طرفيها للخلافات العميقة والمتأصلة بينهما؟
وكانت السعودية وإيران قد أعلنتا في العاشر من آذار/مارس الفائت عن اتفاق يمكن تسميته باتفاق مبادئ لعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما برعاية صينية، بعد قرابة سبع سنوات من قطع العلاقات بينهما إثر إحراق السفارة والقنصلية السعودية في كلٍ من طهران ومشهد، احتجاجاً على تنفيذ الرياض حكم الإعدام الصادر بحق الداعية السعودي “الشيعي” نمر النمر، والتي رفعت أزمة العلاقة بين الدولتين الإقليميتين إلى فوهة البركان، بعد سنوات طوال من التنافس والصراع المكتوم بينهما منذ نشأة الجمهورية “الإسلامية الإيرانية” وتبنيها لمبدأي تصدير الثورة وولاية الفقيه التي أراد مهندسها مدّ أعمدتها لتغطي العالم الإسلامي كله، متجاوزاً بذلك العامل المذهبي الذي وضعه أساس لا يمكن المساس به في دستور جهوريته “الإسلامية”، ومنه تسربت المياه الملوثة لتعكر العلاقات التي لم تكن بأفضل أحوالها زمن الملكية الإيرانية، إلا أنها لم تكن بالسوء الذي وصلت إليه مع تربع الملالي على سدة الحكم في طهران.
ومن حزب الله السعودي ومساعيه إلى قلب نظام الحكم في المملكة العربية السعودية، إلى أزمة الحرم المكي عام 1987 وما تبعها من مهاجمة متظاهرين إيرانيين للسفارتين السعودية والكويتية أودت بحياة دبلوماسي سعودي، إلى وصف الخميني للسعوديين بأنهم “عصابة من المهرطقين”، وهو التوصيف الكنسي للخارجين عن الدين، ما أدى لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لتعود لاحقاً بعد وصول الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي متسلحاً بحواري الحضارات والأديان، دون دراسة لبيئته الإيرانية وقبولها لبذار هذا الحوار، ومع ذلك، استطاعت إدارته تدفئة العلاقات الإيرانية السعودية والتوقيع على اتفاقيتي 1998-2001، اختصت إحداهما بالتعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، فيما امتدت الأخرى إلى المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية والرياضية، وهما اللتان أشار لهما البيان الصيني لتكونا مرجعاً لاتفاق المصالحة السعودية الإيرانية، بالإضافة لاحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية كمبادئ مرجعية للاتفاق.
بدأت المباحثات السعودية الإيرانية خلال ربيع عام 2021 بوساطة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي وتيسير من قبل سلطنة عُمان لهذه المباحثات، والتي استمرت قرابة عامين، وخلال خلال جولاتها الخمس على مستوى الوفود الأمنية، في مؤشر على التوجس السعودي من السياسة الإيرانية التي يرسمها جنرالات الحرس الثوري الإيراني بدلاً عن الساسة في طهران، أو أنهم الطرف الأوزن في رسم سياسة إيران، وكمؤشر على حاجة الطرفين، السعودي تحديداً، إلى ضامن قوي لأي اتفاق بينهما، توصل مسؤولو الأمن القومي السعودي والإيراني خلال خمسة أيام من المباحثات إلى اتفاق لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين بلديهما برعاية صينية.
تبع الاتفاق المذكور أجواء من التهدئة وإجراءات لإعادة بناء الثقة أقدمت عليها الرياض وصلت إلى إعادة حليف إيران في دمشق إلى الجامعة العربية، دون أن تقدم طهران على خطوات مماثلة، سواءً على الصعيد اليمني المتجمد على ما هو عليه قبل البيان الصيني، أو على مستوى ملء مقعد الرئاسة في لبنان، والمتعثر ملؤه نتيجة مشاكسات “حزب الله” اللبناني، المنفذ الأعمى لسياسة إيران في المنطقة.
وفي ظل أجواء التهدئة الحذرة والمحسوبة، أعاد حقل الدرة للغاز جمر الخلاف السعودي-الإيراني إلى السطح، مذكّراً بكم القضايا العالقة بين الطرفين، وحسب كريستيان كوتس أولريخسن، الزميل في معهد بيكر في جامعة رايس، يمثل النزاع على حقل الدرة “اختبار” لتحسين العلاقات السعودية الإيرانية، فـ”كيفية حل هذا الأمر سيكون مؤشراً مبكراً على عمق ومتانة التقارب بين إيران وجيرانها الخليجيين”، مضيفاً في موقع “المونيتور”، “كان من الممكن دائما أن تضع نقاط اشتعال محددة على محك التحركات الأخيرة للمصالحة واستعادة العلاقات الدبلوماسية”.
وحقل الدرة للغاز حقل بحري يقع ضمن المنطقة المغمورة المقسومة بين السعودية والكويت، تم اكتشافه في ستينيات القرن الماضي، إلا أن تطويره بقي معطلاً منذ ذلك الحين، بدايةً لعدم اعتبار الغاز من الأصول الإستراتيجية، ولاحقاً بسبب المشاكل التي تثيرها إيران حول أحقيتها باعتبارها طرفاً ثالثاً في هذا الحقل، معترضة على الاتفاق الموقع بين السعودية والكويت في آذار/مارس 2022 حول تطوير حقل الدرة لبدء استغلاله، نتيجة تجاهلها في الاتفاق.
وتبلغ مساحة المنطقة المقسومة، نحو 5.770 ألف كيلومتر مربع، وقعت السعودية والكويت اتفاقاً بشأنها عام 1965 بدء العمل به عام 1970، نصَّ على تقسيم ثرواتها الباطنية مناصفة بين البلدين، وفقاً لمبدأ “الفصل البحري” الذي يقضي بتقسيم الحصص في عرض البحر.
“الدرة” فخ اصطياد المكاسب السياسية
يعتبر الدرة من أهم الحقول الإستراتيجية لكل من السعودية والكويت، حسب “منصة الطاقة”، إذ إنه يعمل على: دعم النمو بمختلف القطاعات الحيوية في البلدين، وإنتاج مليار قدم مكعبة قياسية من الغاز الطبيعي و84 ألف برميل من المكثفات يومياً، مع تلبيته لنمو الطلب المحلي على الغاز الطبيعي وسوائله في البلدين.
ووفقاً لمدير مركز نورس للدراسات، إياد حمود، فإن التصعيد الإيراني فيما يخص أحقيتها المزعومة في حقل الدرة للغاز تسعى من ورائها إيران لتحقيق مكاسب سياسية في المنطقة، مستدلاً على ذلك بالعجز الإيراني عن الحفر والتنقيب في حقل “بارس الجنوبي”، والذي يعتبر أكبر حقلاً لإنتاج الغاز في العالم بلغ إنتاجه هذا العام إلى 241 مليار متر مكعب من الغاز، بالإضافة إلى إنتاج 700 ألف برميل من المكثفات يوميا، وهو حقل مشترك أيضاً بين إيران وقطر، وفي الوقت الذي تستثمر قطر في حقل الشمال، حسب المسمى القطري، عجزت إيران عن ذلك، كما فشلت في إقناع الصين في الاستثمار فيه، بعد تعليق مؤسسة البترول الوطنية الصينية استثماراتها في مشروع حقل “بارس الجنوبي”.
مشيراً في حديثه لموقع أورينت، إلى أن استخراج إيران للغاز من حقل الدرة، في حال قدرتها على ذلك، قد يفوق قيمة شرائها للغاز من أسواق الطاقة، ما يعزز القناعة بأن التصعيد الإيراني بخصوص حقل الدرة بازار للمقايضة بأوراق سياسية.
وكان الرئيس التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية، محسن خجسته مهر، قد أعلن أن بلاده قررت تسريع الاستعدادات لبدء الحفر في حقل آرش/الدرة المشترك، مشيراً إلى أن الشركة وافقت على تخصيص موارد كبيرة لتنفيذ خطة تطوير حقل آرش/الدرة، وأنها ستبدأ الحفر مع تهيئة الظروف.
وفي مداخلة له أمام مجلس الأمة، قال وزير الخارجية الكويتي، سالم عبد الله الجابر الصباح، إن “الثروات التي تقع في “حقل الدرة” هي ثروات مشتركة بين الكويت والسعودية بالمناصفة فقط لا غير”.
وفي المضمون ذاته، اعتبرت وزارة الخارجية السعودية أن “ملكية الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة، بما فيها حقل الدرة بكامله، هي ملكية مشتركة بين المملكة ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة”، كما جدّدت الرياض دعواتها للجانب الإيراني للبدء في مفاوضات ترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت كطرفٍ تفاوضيٍ واحد مقابل الجانب الإيراني، وفقاً لأحكام القانون الدولي، واللافت هنا أن إيران تنازع الكويت فقط في حقل الدرة، رغم إعلان السعودية والكويت عن نفسهما كطرف واحد وملكية وسيادة مشتركة على الحقل الغازي.
خط في الرمال
رسم السياسي البريطاني بيرسي كوكس عبر معاهدة العقير عام 1922، الحدود الفاصلة لكل من السعودية والكويت والعراق، سمّاها المؤرخ البريطاني جيمس بار “خط في الرمال” وعنون بها كتابه “خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكّل الشرق الأوسط”، ومع اكتشاف الهيدروكربونات في أعماق البحار والمسطحات المائية، باتت الحاجة إلى خط في المياه تفرض نفسها على دول المنطقة لحل القضايا العالقة بين دولها، كحال حقل الدرة البحري للغاز، فعلى الرغم من عودة العلاقات السعودية الإيرانية، لا تزال القضايا العالقة بينهما دون حل، ومنها تسوية الحدود البحرية المشتركة بينهما، والتي تتطلب في حال توفر الرغبة الصادقة لحلها من قبل الطرفين، الإيراني تحديداً، مضاعفة الجهد والصبر، لذا من المبكر الحديث عن مصالحة فعلية بين الرياض وطهران دون اختبارها في أفران القضايا الساخنة بين الدولتين.
ووفقاً لحمود، تتشعب الخلافات السعودية الإيرانية في الساحات الأيدولوجية/المذهبية والإستراتيجية والسياسية والاقتصادية وصولاً للتنافس على النفوذ والهيمنة الإقليمية، وبالنظر للبيان الثلاثي السعودي الإيراني الصيني المشترك، صِيغ البيان بطريقة اتفاق المبادئ، دون تطرقه أو معالجته للقضايا الجوهرية بين الدولتين، وعليه، سيبقى هذا الاتفاق بحاجة إلى اتفاقات لاحقة لتفكيك العلاقات الشائكة بين الرياض وطهران، والتي قد تفجر إحداها الاتفاق الصيني الأساس، معتقداً أن الرياض منحت المزيد من العمر للنظام المتهالك في طهران بموجب هذا الاتفاق الذي سيستغله نظام الملالي للتعافي الاقتصادي ولفك العزلة عن نفسه، ومن بعدها سيزيد من تغوله وقلقلته لشؤون دول المنطقة، فإيران لم ترسل أي رسائل إيجابية توحي بالتزامها بعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول، أو توقفها عن دعم أذرعها الولائية في دول المنطقة، وتكريسها كدولة داخل الدولة.
من قاعة “المرايا الفارسية” المخصصة للبيانات الصحفية في طهران إلى حقل الدرة للغاز، تتكشف أزمة العلاقة وانعدام الثقة بين الرياض وطهران، رغم المصالحة الأخيرة بينهما، فكلا الدولتين المتنافستين لم تتراجعا عن استراتيجيتهما المتقاطعتين إقليمياً، والمولدتين لمطبات تمنع الطرفين من الوصول إلى مصالحة حقيقية بينهما، وما جرى في بكين لن يعدو عن كونه اتفاقاً لإدارة التنافس بين الدولتين أو لتغيير أدوات التنافس، مع إدخال الصين كضامن للاتفاق، كونها صاحب النفوذ الأكبر على طهران، باعتبارها الرئة الاقتصادية للنظام الإيراني الرازح تحت العقوبات الاقتصادية الغربية المشددة.