يبدو أن ملامح نتائج اندفاع بشار الأسد لدعم الرئيس الروسي في حربه ضد أوكرانيا بدأت بالظهور ولا سيما ميدانياً، إذ إن الهجوم الأوكراني المضاد يسير وبشكل مخطط له غربياً بالتوازي مع ضغوط على الروس في سوريا، ومن خلال التصعيد ضد النظام، الذي يُعد الحلقة الأضعف في مجمل عناصر الصراع، بحيث بات
الوضع مفتوحاً على جميع الاحتمالات.
الوضع في سوريا متوتر للغاية بحسب كيريل سيميونوف الخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي، إذ نقلت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا عنه القول: إن الصراع حول أوكرانيا ينعكس بشكل متسارع على سوريا، والخلفية السلبية كلها لما يجري تتجلى في الفضاء السوري بالنظر لازدياد الاحتكاك بين الطيران الروسي والأمريكي و محاولة الأمريكيين أنفسهم إن لم يكن فتح جبهة ثانية، فدعم تنظيمات للعمل ضد النظام من أجل تشتيت تركيز روسيا”.
الأمريكيون والغرب عموماً ينظرون إلى أن سوريا هي الخاصرة الرخوة لروسيا التي تعد قاعدة لوجستية تدعم حربها في أوكرانيا ولكن وعلى الرغم من استبعاد وصول التصعيد بين الجانبين إلى حد المواجهة المباشرة فإن إضعاف روسيا من خلال النظام، يسرّع من إستراتيجية الغرب في إنهاكها وإغراقها في مستنقع أوقعها به فلاديمير بوتين، الذي سارع بشار الأسد لحظة غزوه أوكرانيا للمزاودة حتى عليه في الهجوم سياسياً وإعلامياً على الغرب والحديث عن انتهاء القطبية الواحدة، أملاً منه بأن هزيمتهم ستكون باب الفرج بالنسبة إليه.
الأمريكيون مصرّون على ممارسة الضغوط على النظام ومعاقبته للنيل من الروس في سوريا ويلمحون إلى أنهم باتوا في حِل مما كان يحكم العلاقة بينهم وهو اتفاق القدس الذي وقّعه مستشارو الأمن القومي لكل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل في العام 2019 وذلك من خلال تحميل روسيا مسؤولية خرقه وعدم التنسيق المسبق بين الأطراف الثلاثة قبيل قيام أحدهما بأعمال عسكرية براً وجواً.
وقال الجنرال أليكسوس غرينكويتش قائد القوات الجوية التاسعة إنه “من باب المسؤولية للروس، أن يعودوا لبرتوكول عام 2019، نرى أن ما تقوم به القوات الروسية في سوريا له علاقة بما يحدث في أوكرانيا فهي تتصرف بشكل عداوني في سوريا، ربما للتعويض عن فقدانهم القدرات القتالية والحرب في أوكرانيا، مخاوفي أن يواصلوا هذا السلوك الذي قد يتطور ويشكل خطراً علينا جميعاً”.
في حين أقرّ الروس من خلال المبعوث الرئاسي الروسي الكسندر لافرنتيف بأنه لم تعد الاتصالات مع الأمريكيين وثيقة كما كانت في السابق، إلا أنه اتهم الولايات المتحدة بأنها لم تلتزم باتفاق القدس المتضمن منع الاحتكاك في الأجواء السورية وإخلاء قاعدة التنف مقابل انسحاب الميليشيات الإيرانية عن الحدود مع إسرائيل مسافة مئة كيلو متر.
حول التنف الواقعة في المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني يتمحور الحدث، فهذه المنطقة الإستراتيجية تضم قاعدة ضخمة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، إذ دفعت إليها بتعزيزات عسكرية، والأبرز هو تزويد “جيش سوريا الحرة” الذي أنشأته حديثاً كبديل لفصيل “مغاوير الثورة” بمنظومة هيمارس الصاروخية، إذ أعلن قائده فريد القاسم أن معدات خاصة حديثة جرى استعمالها خلال مناورات جرت مع قوات التحالف.
مناورات جيش سوريا الحرة جاءت بالتزامن مع مناورات مماثلة أجرتها الولايات المتحدة مع ميليشيات قسد في شرق الفرات، وتضمنت التدريب على إقامة جسر للعبور إلى غرب الفرات، ما يعد مؤشراً على توجه لوصل المنطقتين الخاضعتين لسيطرة الولايات المتحدة ببعضهما، وهو أمر وإن بدا صعباً بالنظر لوجود ميليشيات إيران، وقوات النظام لكنه ليس مستحيلاً إذا ما أصرت الولايات المتحدة عليه، ونفّذته من خلال ميليشيا قسد وجيش سوريا الحرة.
وأيضا لا يبدو مستحيلاً إقامة منطقة عازلة في الجنوب السوري وربطها مع التنف المتاخمة لها، وهو مشروع أمريكي جرى الحديث عنه العام الماضي، وقد يتم تنفيذه بالفعل إذا استمر تدفق الكبتاغون إلى الأردن والخليج، وهذا مرتبط أكثر بموقف العرب الذين اشترطت الولايات المتحدة عليهم للتطبيع مع النظام عدم حديثه عن الوجود الأمريكي في سوريا إلى أمد غير محدد، والانخراط بالعملية السياسية، والتأكيد على “أمن إسرائيل” والذي يعني إخراج إيران وميليشياتها من سوريا، وهي شروط لا يستطيع النظام تلبيتها بسبب عدم امتلاكه القرار السياسي في البلاد، ما يعني أنه سيكون أكثر ضعفاً من السابق بفعل تلك “الشروط/ الضغوط”.
والمنطقة العازلة في الجنوب وتحديداً السويداء أعادت صحيفة الأخبار اللبنانية الحديث عنها قبل أيام إذ نقلت عن دبلوماسيين عرب معتمدين في عمّان أن الإدارة الأمريكية تسعى لتنفيذ خطّة في محافظة السويداء، تقوم على إدارة المحافظة من قِبل السكّان المحليين، على غرار منطقة شرق الفرات التي تديرها قسد وقال هؤلاء الدبلوماسيون إن هذه الخطّة سوف تخدم إسرائيل والأردن، لجهة تحويل الجنوب السوري إلى منطقة عازلة، كما هو الحال في الشمال السوري بالنسبة إلى تركيا.
وقد يوافق العرب على هذا المشروع ويساهمون بإنجازه في ظل تعقيدات الشروط الأمريكية الثلاثة التي تجعل التطبيع مع النظام صعباً، وهو ما أشار إليه وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي بعد لقائه بوزير خارجية النظام فيصل المقداد، إذ أكد أن “العودة الفعلية ستكون طويلة الأمد ومعقدة وصعبة للغاية، والأهم أنها تحتاج للكثير الكثير من الجهد والعمل” بحكم تعقيدات الواقع الموضوعي وأيضاً لإضعاف النظام وجعله يخضع للشروط الأمريكية والعربية.
وما يعزز هذه الرؤية حول المنطقة العازلة هي استمرار النظام بتهريب الكبتاغون إلى الأردن والخليج بحسب ما أكد الصفدي في مداخلة عبر تقنية الاتصال المرئي، في الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لمواجهة تهديد المخدرات الصناعية، والذي استضافته الولايات المتحدة إذ قال إنه على الرغم من جميع الخطوات اللازمة لمكافحة تهريب المخدرات عبر الحدود السورية إلى أراضيه، وقيامه بما يلزم لحماية أمنه الوطني من هذا الخطر المتصاعد إلا أن محاولات تهريب المخدرات من الحدود السورية مستمرة ومتكررة، لافتاً إلى مصادرة أكثر من 65 مليون حبة كبتاغون خلال العامين الماضيين، ومشدداً على ضرورة بذل الجهود الدولية المشتركة لمواجهته بما فيها توفير تكنولوجيا حماية الحدود وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
الاجتماع الوزاري جاء بُعيد صدور الإستراتيجية الأمريكية لقانون الكبتاغون الذي يهدف إلى تفكيك شبكات التهريب المرتبطة بالنظام، في حين أن الملف الثاني الضاغط على النظام وهو قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء “مؤسسة مستقلة للبحث بمصير المفقودين في سوريا، يشكّل نقطة تحول في الإستراتيجية الأمريكية في إضعاف النظام الذي لا تشبهه سوى أنظمة عصور الظلام التي انقرضت، ويرعبه تسليط الضوء دولياً على جرائمه وإخفاء عشرات الآلاف في معتقلاته بينهم أطفال ونساء.
النظام يزداد ضعفاً فإلى جانب الضغوط الغربية وتفكك حاضنته ولا سيما بالنسبة للجنود وعدم انتهاء الحرب التي شنّها على السوريين، وأعداد القتلى الكبير منهم، والأوضاع المعيشية الكارثية، صُدم بانفراط عقد اتفاق كان يسعى إليه مع منظمة فاغنر الإرهابية يتضمن زيادة عديدها في سوريا من أربعة آلاف إلى سبعين ألفاً، بهدف حمايته إلا أن محاولة انقلاب فاغنر المفاجئة أطاحت بما كان ينوي القيام به بحسب ما كشفته شبكة أي تي في البريطانية قبل أيام.
وكان الأسد يعوّل في حمايته على ميليشيا فاغنر ومهّد لموضوع زيادة عديد المرتزقة في سوريا خلال زيارته الأخيرة لموسكو ووضعها في إطار القواعد العسكرية إذ قال: “لا مانع من توسيع القواعد العسكرية الروسية في سوريا أو زيادة عددها، يفترض لهذه القواعد كي يكون لها تأثير بالردع أو بالتوازن أن تُسلّح بأفضل الأسلحة”.
الروس والإيرانيون والنظام مأزومون في سوريا ويتعرضون لضغوط غربية غير مسبوقة، فلن يستطيع الروس الانشغال في البلاد على حساب حربهم في أوكرانيا، والمستمرة منذ 500 يوم فشلوا خلالها في إسقاط نظام كييف خلال أيام كما قالوا، بل على العكس بات بوتين ونظامه في موقع دفاعي ومهددين بالسقوط، والناتو سيعيد التأكيد غداً في قمته بعاصمة ليتوانيا إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق على الحدود مع بيلاروسيا، أن انتصار روسيا ممنوع وأن الحرب ستبقى مفتوحة.
والنظام الإيراني ما زال ينشد ودّ الغرب بسبب أزماته الاقتصادية والعقوبات التي ازدادت مؤخراً، ولا سيما من جانب بريطانيا، ويقدم تنازلات على خلفية ملفه النووي، ويستجدي الولايات المتحدة للإفراج عن 7 مليارات دولار من ديون كوريا الجنوبية المجمدة بسبب العقوبات، فيما ميليشاته أصبحت في مرمى قسد وجيش سوريا الحرة بين شرق الفرات والتنف بدعم من قوات التحالف الدولي.
ورهان النظام على الروس بإقامة نظام عالمي جديد ثنائي القطبية ينقذه من وضعه القائم، بناء على أوهام انتصارهم في أوكرانيا انتهى، ويرجَّح أنه بات الآن بمواجهة تحركات أمريكية ميدانية هذه المرة من خلال الدفع بقوى محلية لعقابه على دعمه روسيا، وفتح جبهة ثانية بهدف إضعاف روسيا، وقد يكون صيف البلاد ملتهباً، وضحاياه من الجانبين هم من السوريين.